حين أنهت المحكمة العليا البريطانية يوم الثلاثاء الماضي تعليق البرلمان الذي فرضه رئيس الوزراء بوريس جونسون، لم يشر قرارها إلى الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي«بريكست». والواقع أن قرار المحكمة لم يكن عن «بريكست» بحال من الأحوال. لكن المسعى المتشنج لنزع المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ساهم بقوة في تشكيل الطريقة التي اُستقبل بها الحكم في البلد المنقسم الذي يتمسك فيه كل طرف بموقفه.
فقد انتقد مؤيدو «بريكست» المحكمة باعتبارها أداة مؤسسية أخرى يراد بها سحق إرادة 17.4 مليون شخص صوتوا من أجل ترك التكتل. واستمسك متصلون غاضبون بمحطات راديو بـ«إرادة الشعب» ضد شرعية المحكمة وشككوا في الحياد السياسي لقضاتها الأحد عشر الذين أقروا بالإجماع قرار محكمة اسكتلندية مفاده أن السيد جونسون لم يستطع تسويغ قراره الشهر الماضي بتعليق البرلمان لمدة خمسة أسابيع. وفي الجانب الآخر، تتصاعد المطالبات باستقالة جونسون ومن المتوقع أن تتزايد هذه الدعوات مع عودة انعقاد البرلمان. ويرى منتقدو «بريكست» أن الحكم كشف الطبيعة اللامبالية والمتعالية للحكومة التي تنتهك الأعراف الديمقراطية، وكل هذا باسم تنفيذ نتيجة استفتاء يقال إن المقصود به استعادة السيادة البريطانية.
والمحكمة العليا البريطانية، على خلاف نظيرتها الأميركية، حديثة ولم تخضع للاختبار نسبيا ويراد بها أن تكون رقيبا على حجر أساس الديمقراطية البريطانية وهو السيادة البرلمانية. وحكمها واجه رد فعل غاضب من أنصار «بريكست» وقبلته حكومة جونسون على مضض، وهذا قد يمثل طريقا وعرا أمام المحكمة وأمام المؤسسات الديمقراطية الأخرى. ويرى «ستيفن فيلدينج» أستاذ التاريخ السياسي في جامعة نوتنجهام في إنجلترا «أصبح كل شخص يُنظر إليه حاليا في إطار حزبي وهذا واحد من التأثيرات الخطيرة وغير العادلة لـ«بريكست». لقد قوض «بريكست» إيمان الناس بالمؤسسات التي يراد بها ضمان القانون والنظام واللعب النزيه وضمان الحقوق».
وأحد أسس الدستور البريطاني غير المكتوب هو السيادة البرلمانية والآخر هو مساءلة الحكومة أمام البرلمان وبالتالي أمام الناخبين. ويرى «روبرت هاسل» أستاذ الحكومة والدستور في «كينجز كوليدج» أن جونسون، بتعليقه البرلمان في منعطف خطير في عملية «بريكست»، كان هو من عرقل «إرادة الشعب». وأضاف هازل «قرار المحكمة العليا أظهر أن النظام مازال يعمل. المحكمة ذكرتنا بقواعد نظامنا البرلماني في الحكم».
وأصر جونسون على أن قراره بتعليق البرلمان ما هو إلا عملية روتينية وليس حيلة لتنفيذ سياسته في «بريكست». وكان جونسون قد تولى السلطة في يوليو الماضي وتعهد بأن يخرج بالمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سواء توصل أو لم يتوصل إلى تسوية بالتفاوض في التجارة وحقوق المواطنين والحدود مع أيرلندا. لكن التعليق اُعتبر على نطاق واسع لعبة سلطة ضد أعضاء من البرلمان الذين قضوا عطلة الصيف في التدبير لسحق مسعى الخروج البريطاني دون صفقة يوم 31 أكتوبر وهو الموعد المقرر لمغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي. والتخطيط الحكومي الطارئ للخروج دون صفقة يحذر من اضطراب سياسي واجتماعي في غمرة نقص في الغذاء والدواء وقيود شديدة على التجارة مع الاتحاد الأوروبي.
وسعى البعض إلى مراجعة قضائية لعملية تعليق البرلمان في أيرلندا الشمالية وانجلترا واسكتلندا لكن المحكمة الاسكتلندية وحدها هي التي أيدت المتقدمين بالشكاوى. ثم طعنت الحكومة في القرار الاسكتلندي أمام المحكمة العليا في لندن. وقضت المحكمة يوم الثلاثاء أنه بينما كان التعليق سلطة تنفيذية يستطيع ممارستها رئيس الوزراء الذي يتصرف باسم العرش، لكن يتعين ألا تنتهك هذه الممارسة الديمقراطية البرلمانية. والحكم أقيم على أحكام سابقة للمحكمة العليا التي عمرها عشر سنوات فقط ويرسي سابقة للمراجعات القضائية في المستقبل لأعمال الحكومة. ويرى هازل- أستاذ الحكومة والدستور في كينجز كوليدج- أن إمكانية عرقلة حكومة منتخبة من قضاة غير منتخبين مازال فكرة تزعج بعض البريطانيين.
وجونسون لا يتمتع بأغلبية في البرلمان وخسر سلسلة من عمليات التصويت في وقت سابق هذا الشهر قيدت حركته في «بريكست». وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بالتفاوض مع الاتحاد الأوروبي بحلول منتصف أكتوبر، يتعين عليه، بموجب القانون، أن يطلب تمديد الموعد النهائي المحدد بيوم 31 أكتوبر.
ويعتقد فيلدينج- أستاذ التاريخ السياسي في جامعة نوتنجهام- أن جونسون إذا استمر في السلطة فستكون حملته الانتخابية شعبوية على الأرجح من ذاك النوع الذي يتردد في الدوائر المؤيدة لبريكست وسيجري تصويره على أنه تجسيد إدارة الشعب بينما حاول البرلمان والقضاة والنخب عرقلته. ومضى فيلدينج يقول «البريطانيون يشتهرون بالقدرة على التوصل إلى حلول وسط وبالديمقراطية البرلمانية والجدل واللعب النزيه. لكن بعد ما أثاره «بريكست» من استقطاب، خرج كل هذا من النافذة».
سايمون مونتليك
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»